لم يكن مجرد حذاء أيها السارق

نجاة حمص5 يونيو 2025
لم يكن مجرد حذاء أيها السارق
نجاة حمص

وفي يوم عرفة، يحكى أن رجلا على باب الله ذهب إلى المسجد فجرا، وهو يرفل في ثوب الصحة والعافية، ليصلي لربه مع الجماعة، زاهدا في جاذبية الفراش ودفئه، ممنيا النفس بلقاء مع رب العرش الكريم، ليعود إلى بيته لاحقا مع جرح غائر في القدم، لم ينفع معه الا البتر كعلاج.. كان ذنبه الوحيد أن حذاءه النقي أثار إعجاب سارق بائس.

فبينما كان “ابن الحلال” يتوضأ وعلى وجهه تباشير السعادة والرضا، يغير ملابسه ويتعطر استعدادا لموعده الروحاني الذي لا يفوته منذ عقود، كان هناك، في مكان آخر، “عالة” على المجتمع يستند على الجدران كهواية يومية، “برنسيسة” يحب الحصول على كل الأشياء بلا عناء، أو ينتظر من يعاني ليحصل على قوت يومه، ليأخذه منه عنوة، لكن ذلك الفجر كان فارقا..

دخل الكهل إلى المسجد، وترك حذاءه كعامة الناس، وعندما أقيمت الصلاة وشرع العباد في التواصل الروحي مع إله السماوات والأرض، لبى “العالة” الإقامة ولكن ليس للصلاة، بل ليقف على العتبة ويختار أفضل الأحذية وأكثرها طلبا في السوق،.. وكان حذاء الرجل الوقور يدل على أن صاحبه ابن أصول، متعوب على تربيته ودراسته، حذاء نقي ومريح، ولن يضيره إن سرق منه فيبدو من خلال ما ينتعله أن بإمكانه الحصول على غيره..

سلم الإمام، وسلم المأمومون عن يمينهم وشمالهم ثم نهضوا من جلستهم، وفي طريقهم إلى الخروج سألوا عن احوال بعضهم، وعلى وجوههم نضرة النعيم، حتى إذا وصلوا إلى العتبة وقفوا بانتظار دورهم في الخروج وهم في حديثهم مع بعضهم لاهون، وكلما خرج أحدهم انتعل حذاءه و تيسر، إلى أن جاء دور صديقنا الذي تفاجأ باختفاء حذائه..

بحث وكل من كان معه في الصلاة عن الحذاء، وفي الأخير ابتسم الطيب وقال لمن حوله بأن بيته قريب ولن يضيره إن ذهب بلا حذاء، ثم خرج من المسجد..

في طريقه إلى البيت، كان يفكر في حذائه الضائع ومن أين سيأتي بثمن نعل جديد، كان يحاول ايجاد طريقة ل”تحويش” ثمنه من بين مصاريف العيش وتكاليف علاج مرضه ودراسة الأبناء، لكنه فوض أمره لله وأكمل طريقه..

فجأة، شعر بأنه داس على شيء حاد اخترق باطن قدمه، فغامت الرؤية أمامه، كان الألم فظيعا، لم يتبين ما إذا كان قطعة زجاج أم مسمار، لكنه تحامل على نفسه وجر قدميه إلى أن وصل إلى البيت،.. استقبلته الزوجة والابناء بنظرات خائفة جزعة، ضمدوا جرحه بانتظار أن يفتح الأطباء عياداتهم..

على عكس المنطقي، كان الجرح لا يزيد إلا تورما، كثرت العلاجات والأدوية والحال لا يزيد إلا سوءا، كان الطيب يظل يومه وهو يتوجع بانتظار حمى الليل التي لا يحلو لها زيارته إلا عندما ينفض الجمع،.. وفي نهاية الأمر استقر رأي الاطباء على ضرورة بتر القدم.

فقد الرجل الوقور قدمه، وعاش السارق قرير العين، كان يعتقد أنه لم يسرق سوى حذاء، لم يكن ليتخيل أنه سرق عافية رجل بسيط، بأنه تسبب في خروج زوجة إلى العمل وقد عاشت طوال عمرها “ست” بيت مدللة، بأنه تسبب في مغادرة الأبناء لصفوف الدراسة،.. لم يكن يعلم كمية الألم التي تجرعها الرجل، وكمية الخوف والوجل التي شعر بها وهو يكشف كل صباح عن قدمه ليراها وهي لا تزداد إلا سوءا، ولا عدد العبرات التي ذرفها سرا..

لم يكن يعلم كم ارتجف فرقا، كم بكى ألما، كم سهر من ليال يشكو للخالق الظلم الذي طاله،.. وهذا ما يحدث، قد يحسدك البعض على نعل تنتعله فيسرقه، وهم في نظرهم لم يسرقوا إلا حذاء، لكن ما أعظم ما يجره المحتقر من الذنب، وما أحقر السارقون!.

وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون ..

نجاة حمص

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *