
ونحن نلمح طيف حافلة من أسطول الحافلات الخجول، النادر الظهور، نتذكر المجد التليد للنقل بالعيون، إبان حقبة “حافلات الكرامة” التي كانت خطوطها تغطي كل أحياء المدينة، بتوقيت مدروس وطاقم يحترم خصوصية المنطقة ولا يمانع جلوس المسنين على الأرض ولا “باري هون” حيثما يشاء الزبون..
لعائلة “الجماني” مكانة خاصة في قلوب ساكنة الصحراء وأهل مدينة العيون بالخصوص، وكيف لا وهم المعروفون بأياديهم البيضاء وحرصهم الدائم على توزيع الزكاة والصدقات على الفقراء في كل مناسبة دينية، وهم قبلة المقبلين على العمليات الجراحية وملجأ الحالات الإنسانية.
ولعل أكثر ما يتذكره لهم الطلبة والتلاميذ والعمال والمعسرون هي حافلات “الكرامة”، عندما تبرع أهل الجماني على أهل العيون بصدقة جارية بثمن رمزي، يحترم حالة الفقر والبطالة اللتين تعاني منهما ساكنة العيون، بعيدا عن كذبة امتلاك كل مواطن لفيلا وسيارة، وأسطورة “مليون” شهريا لكل صحراوي.
كان ثمن التذكرة لا يتعدى الدرهمين وجميع الخطوط مفعلة، مما ساهم في فك العزلة عن الجهة الشرقية من المدينة وقلص البطالة وبالتالي خفض الاحتقان الذي كان يهدد السلم الإجتماعي.
وطبعا هذا لم يعجب الذين يستمتعون باستفزاز الساكنة رغبة في “اكديم ازيك” أخرى يستفيدون منها ومن عائداتها، فكانت الحافلات عرضة لأعمال تخريبية لا تفرق بين الحافلة والراكب وان كان ذو شيبة، بالإضافة إلى إتاوات ومضايقات مسيري الشأن المحلي الذين لم يهدأ لهم بال إلا عندما طردوا الحافلات وحرموا الساكنة من صدقة أهل الجماني، بشعار ” لا نرحم ولا نسمح لرحمة الله بالنزول”.
ثم، وبعد انسحاب حافلات الكرامة جيء بحافلات بديلة تمتعت بكل الدلال والدلع البلدي : ثمن تذكرة أغلى من السابق، إعفاء من الإتاوة، دعم خرافي و غير مسبوق، إبعاد معظم الحافلات عن متناول الزبناء وحتى المخربين بتخليلها في المستودعات..
ورغم كل الغنج والدلع، شرعت الحافلات الدلوعة في خفض الخطوط شيىا فشيئا الى أن تلاشت، متناسية تنفيذ بنود دفتر التحملات الذي قدم بعد انسحاب الكرامة لتهدئة الشارع، ولم يقابل كسلها و” تمرفيگها” في المستودع بعقوبة واحدة من تلك التي كانت ترف على راس الجماني بشكل متواصل إبان خدمة حافلاته، والضحية كان هم التلاميذ والطلبة والعمال البسطاء والبؤساء والمتعوسين.
رحم الله أيام الكرامة.
نجاة حمص