شهدت مدينة العيون، كبرى حواضر الصحراء، في السنوات الأخيرة انتشارًا واسعًا وملحوظًا للمقاهي على امتداد أحيائها الرئيسية والهامشية.
هذا التوسع اللافت أضحى سمة بارزة في المشهد الحضري للمدينة، وأصبح موضوعًا يثير اهتمام الساكنة، سواء من حيث الدور الاجتماعي الذي تلعبه هذه الفضاءات أو من حيث انعكاساتها الاقتصادية والثقافية على الحياة اليومية.
في هذا المقال، تُسلط «هنا الصحراء» الضوء على هذه الظاهرة من مختلف الجوانب، مع التطرق إلى الإيجابيات التي تقدمها، وكذا التحديات والسلبيات، بالإضافة إلى تأثيرها على الثقافة المحلية، خاصة ما يتعلق بعزوف فئة من الشباب عن التقاليد الأصيلة مثل شرب الشاي الصحراوي و طقوسه و تحضيراته الخاصة.
يرجع الانتشار الكبير للمقاهي بمدينة العيون إلى عدة عوامل، أبرزها:
• النمو الديمغرافي المستمر، وتوسع المدينة عمرانياً و سكانياً.
• غياب برامج جادة بالفضاءات الثقافية والترفيهية البديلة مثل المكتبات و دور الشباب و المراكز الثقافية.
• ارتفاع نسب البطالة في صفوف الشباب، مما يجعل المقاهي ملاذاً للهروب من ضغط الحياة اليومية.
• التحولات الاجتماعية ونمط العيش الجديد، الذي بات فيه التلاقي في المقاهي بديلاً عن اللقاءات التقليدية داخل البيوت أو الخيم الصحراوية.
رغم الانتقادات التي تطال هذه الظاهرة، لا يمكن إنكار الدور الإيجابي الذي تلعبه المقاهي في الحياة اليومية لسكان العيون:
1. فرص العمل: تساهم في تشغيل عدد لا بأس به من الشباب في قطاعات خدمية بسيطة.
2. فضاء اجتماعي: تعتبر المقاهي ملتقى لتبادل النقاشات والأحاديث ومتابعة مباريات كرة القدم أو اللقاءات اليومية.
3. تنشيط اقتصادي: تُشغل المقاهي قطاعات أخرى بشكل غير مباشر مثل التزود بالمواد الغذائية، والخدمات التقنية، وغيرها.
4. خدمات متنوعة: بدأت بعض المقاهي تتجه لتوفير بيئات هادئة للدراسة والعمل، خصوصًا للطلبة والموظفين العاملين عن بُعد.
السلبيات: بين إغفال للهوية وتحديات حضرية
1. احتلال الملك العمومي: امتداد الطاولات والكراسي للأرصفة بشكل يعيق المرور ويشوه المنظر العام.
2. تفشي البطالة المقنّعة: حيث يقضي بعض الشباب أغلب وقتهم داخل المقاهي، ما يؤثر على إنتاجيتهم وحياتهم الاجتماعية.
3. ضياع الوقت: تتحول عادة التردد على المقاهي إلى إدمان يومي، بدون مردود ثقافي أو معرفي.
4. تدهور في العلاقات الأسرية: بسبب قضاء وقت طويل خارج البيت.
5. تشجيع على نمط حياة استهلاكي دون مقابل تنموي أو إنتاجي.
من بين أبرز الآثار الثقافية التي يمكن ملاحظتها نتيجة الانتشار المفرط للمقاهي، هو عزوف عدد من شباب مدينة العيون عن شرب الشاي الصحراوي التقليدي، الذي يعتبر رمزًا أصيلاً من رموز الثقافة الحسانية.
لطالما كان إعداد الشاي في المجتمع الصحراوي طقساً يومياً يحمل في طياته قيم الكرم، الصبر، الحوار، والألفة، حيث تُحضّر كؤوسه الثلاث (المرّ، المتوسط، الحلو) وفق ترتيب دقيق، وتُشعل الجمرات وتُرتّب الكؤوس وتُدار الأحاديث في جو يربط بين الأجيال.
غير أن هذا الطقس بدأ يتلاشى تدريجيًا، وخصوصًا عند فئة الشباب الذين باتوا يفضلون المقاهي العصرية والمشروبات الجاهزة السريعة، كالقهوة والمشروبات الغازية والعصائر، على حساب جلسات الشاي الجماعية داخل البيوت أو الخيام. هذا التغير يعكس نوعًا من الانفصال عن العادات والتقاليد، ويهدد بفقدان أحد أرقى المظاهر الثقافية الحسانية التي كانت تميّز المجتمع الصحراوي.
كما أن طقوس الشاي لم تكن فقط مجرد شرب، بل كانت وسيلة للتربية غير المباشرة، وفضاءً لتناقل الحكمة وتجارب الكبار، ولبث روح الصبر والتأمل في نفوس الصغار، وهو ما يُفتقد اليوم في بيئة المقاهي ذات الإيقاع السريع والمشتّت.
الحلول المقترحة لتقنين الظاهرة والمحافظة على التقاليد
• تشجيع الفضاءات الثقافية الأصيلة التي تدمج بين الراحة والتقاليد، مثل مقاهٍ على الطراز الصحراوي تعيد إحياء طقس الشاي.
• خلق أنشطة موازية (ورشات، أمسيات شعرية، حصص لتعليم فن إعداد الشاي…) لإعادة ربط الشباب بهويتهم.
• مراقبة حضرية صارمة لمنع احتلال الملك العام وتحقيق التوازن بين فائدة المقاهي واحترام المدينة.
• إدماج الثقافة المحلية في السياحة الداخلية، لتكون طقوس الشاي مكونًا من مكونات الجذب الثقافي.
إن ظاهرة انتشار المقاهي في مدينة العيون ليست مجرد تحول في نمط العيش، بل مؤشر على تغيرات أعمق تمس الهوية، والعلاقات الاجتماعية، والثقافة اليومية. وبين من يرى فيها متنفسًا حضريًا، ومن يعتبرها خطرًا على القيم والتقاليد، تظل المقاهي بحاجة إلى تنظيم وإعادة تموضع داخل نسيج المدينة، بما يحفظ للثقافة الصحراوية أصالتها ويواكب في الوقت نفسه تطور المدينة واحتياجات ساكنتها.
فهل آن الأوان لإعادة الاعتبار لكأس الشاي الصحراوي ومكانته في وجدان مدينة العيون و أهلها؟
الجواب، لا شك، يبدأ من الوعي بأهمية التوازن بين الحداثة و الجذور.