حفلات الطلاق.. فرحة “تخلية” السبيل وليس حبا “للتهوجيل”

نجاة حمص17 مارس 2025
حفلات الطلاق.. فرحة “تخلية” السبيل وليس حبا “للتهوجيل”
نجاة حمص

 

 

على كثرة مشاكل وهموم ساكنة المناطق الصحراوية، ورغم ما سكب من مداد للتعريف بالثقافة الحسانية، وما بذل من جهود للحفاظ على الموروث الشعبي للبيظان، لا شيء من ذلك يلقى آذانا صاغية ويصل أسرع من “اللحسة”، “الحگين”، خوارق النيلة وحفلات الطلاق..

المغالطات حطب الصحافة الصفراء، ومصدر عيش الطفيليات الإعلامية، وفرصة لظهور الجمعويات الأميات، وكما روج عن حفلات الطلاق من تدليس وافتراءات، حبذا لو أكمل الباحثون والمتدخلون “خيرهم” وتحدثوا عن طبيعة المجتمع الصحراوي المحافظ، عن العادات والتقاليد المجتمعية الصارمة التي تحكم فترة “العدة” بيد من حديد، عن حقيقة تلك الحفلات المنقرضة التي كان هدفها تكريم المرأة، و رفع معنويات المطلقة التي تختبر فترة عصيبة لم يتطرق لها أحد من قبل..كما يجب.

نعم، قديما يحكى أنه وبعد تلقيها لخبر طلاقها، تصريحا أو تلميحا، تنتقل المرأة الصحراوية إلى بيت أهلها، فتستقبل بزغرودة أو اثنتين، قادرتين على إثارة فضول الجيران و فاعلي الخير، الذين، وحالما يعرفون أن السبب هو طلاق فلانة من فلان، يتكفلون بنشر و إشهار الخبر، بعد جلسة استجواب مع المطلقة، وغالبا ما تتخلل الجلسة ملاطفة المطلقة والتهوين عليها بتحويل الزوج السابق إلى مائدة دسمة للنقد، والتغني بجمال وأخلاق المطلقة، مع بعض المرح الذي لا تخلو منه روح صحراوية، مما يحول الجلسة إلى ما يشبه الحفلة.. وإن لم تكن كذلك.

بعدها يبدأ الجد، فتتطوع الأم والخالات والعمات وأي عابرة سبيل، بالإفتاء الشرعي وتنزيل قواعد وشروط هذه العادة المجتمعية التقليدية على أرض الواقع، حيث يعتبر احترام ” العدة” جزء لا يتجزأ من “زين دين” المرأة، ومرآة تعكس طيب الأصل وحسن التربية..

عقب انتهاء مراسيم استقبال المطلقة، التي عادة ما تترك بيت الزوجية وترجع إلى بيت الأهل، تجد المطلقة نفسها أمام تضارب وجهات النظر وصراع أينا أعلم و “أخبر” بالدين والتقاليد، صحيح أن المتعارف عليه هنا بالصحراء هو منع المطلقة من لبس الجديد من الثياب، التزين و التعطر ، لمس الحناء، اجتناب الحديث مع الرجال الأجانب، إلا للضرورة، خفض “الحس”- الصوت- ، المبالغة في تغطية الشعر، ملازمة البيت و عدم الخروج، لكن بعض الحاضرات “المتفقهات” قد يجتهدن في تشديد الخناق ولف التلابيب أكثر ، فيفتين بحرمة التطلع إلى المرآة واجتناب التلفاز و الموبايل وكل ما يمكن من خلاله أن ترى أو يسمعها رجل..

بعد أشهر من الإعتكاف بالبيت و الابتعاد عن الزينة وإهمال النفس، لا غرو إن حصل واحتفلت عائلة المطلقة بخروج ابنتها من العدة، من باب الفخر و التعاطف، لإشهار طلاقها وإعلام الراغبين في طلب يدها، ويعتقد أهل الصحراء أنه كلما التزمت المطلقة بقوانين وقواعد فترة العدة، كلما سرع أمر زواجها مرة أخرى، بل وتقدم لها من هو أفضل من الزوج السابق..العوض الجميل.

آنذاك، وبعد انتهاء العدة كانت تقام حفلة الطلاق أو ما يصطلح عليه “أبراز” أو ” لبروز”، والتي تختلف حسب اختلاف الطبقة الإجتماعية والفئوية، كانت المطلقة تدخل بكامل زينتها و”حفولها”، مع بعض المبالغة المحببة في الكحل والحناء، بعد الحرمان الذي ذاقته خلال أشهر العدة الكئيبة، وبدخولها تبدأ المراسيم..

تجلس في منتصف خيمة “أبراز” وسط صديقاتها وقريباتها، مرتدية ملحفة شبيهة بتلك التي عادة ما ترتديها العروس، ويوضع بالقرب منها ” طبل” ثم ترتفع الأهازيج والزغاريد ويعلو الحماس ..

صحيح أن هذا الطقس وهذا الإعلان يستهدف بالخصوص العرسان المحتملين الراغبين في الارتباط، تنظمه عائلة المطلقة جبرا لخاطرها وتعويضا لها عن فترة عصيبة، لكن قد يتكفل بمصاريفه رجل “محرش لها”، وهذا ما يصطلح عليه ” التحراش”، فقد يكون هناك تنافس بين الرجال على المرأة المطلقة وبمجرد انتهاء العدة يبعث الخطيب المحتمل “جملا” أو يتكفل بالحفل بكل بساطة، معلنا بذلك رغبته الزواج منها، فيكون قبولها هديته بمثابة الموافقة..

وهنا نرجع إلى خيمة “أبراز”، فمن العادات المنقرضة التي كانت مرتبطة بهذا الطقس أن تحبس المرأة هناك ولا تخرج إلا إذا جاء رجل وأخرجها، في حالة ما إذا كان هناك رجل “محرش لها”، فهو يتقدم إلى باب الخيمة ومعه قربان يذبحه ليخلصها، وإذا لم يكن هناك من يريد الزواج، يقوم أخ لها او قريب بذبح قربانه معلنا عن خلاصها..

عندما ينحر جمل- مثلا وليس دائما- قرب مكان الإحتفال، تشق المطلقة الطبل الذي وضع من قبل بقربها، وتبدا مراسيم حفل إطلاق سراحها، حيث تعمد بعض النساء المحافظات على كل ما يمكن أن يندثر من تراث، لاسيما اولئك المتشبثات ب “الترواغ” ، الى سلب المرأة ما تملك من حلي ونفائس، ليفرض على الرجل الذي “حرش” للمطلقة، شراء حلي جديدة عوضا عن تلك المسلوبة.

تختلف نسبة الفخامة والبذخ كما تتفاوت كلفة حفلة الطلاق، وذلك – كما أسلفنا- حسب طبقة وتراتبية العائلة في السلم الإجتماعي، إلا أن الهدف يبقى واحد: التعويض النفسي للمطلقة، حفظ كرامتها وكرامة أهلها خاصة إذا لم يكن الإمساك بمعروف ولا التسريح بإحسان، وإشهار الطلاق ماهو إلا إيذان بفتح باب الترشح لمنصب زوج صالح، يوفر لها السكينة والرحمة قبل أي شيء آخر، فالمرأة الصحراوية أشد حرصا على بيتها و أوفر الطرفين عطاء لإنجاح مشروعها المجتمعي الصغير، واحتفالها ليس حبا “للتهوجيل” ولا فرحا بالمشي على “حل”شعرها وترك الحبل على الغارب، كما يصوره البعض، هو فقط فرح بإخلاء السبيل.

 

 

 

 

 

نجاة حمص

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *