
في الغابر من الأيام، عندما كان لي طول بال و سعة صدر ، كنت أستقبل رمضان رفقة صديقة لي بالبحث عن مساجد بمدينة العيون يؤمها إمام حسن الصوت، قبل أن تفطن لنا وزارة الأوقاف و تنتقيهم فردا فردا، لتلحقهم بمساجد الجالية بالخارج، ويترك لنا النشاز والكحة وأخطاء قواعد التجويد، ومن لا يتورع عن جمع “تنخيمته” وبصقها أمام الميكروفون، ثم يكمل الصلاة بالناس المشمئزين بكل ثقة وشموخ.
على أيامنا، لم تكن هذه المنافسة المحمومة على إعداد “اخروجو” من “شباكية” و”سليلو” وما يدور في فلكهما من أسماء تفتقت عنها عقول المعذبات فوق الأرض، عاشقات “تمارة” اللواتي لا يستسغن مناسبة دينية ولا روحانية دون جلد الذات بتصبين الأثاث وحمل الزرابي والأفرشة ودهن “الفولتارين” بقية أيام الشهر الفضيل،.. آنذاك، وبدل الإنهماك في “التفيتيت”، كنا نحضر ملابس الصلاة و نبحث عن أئمة يساعدون على الخشوع وإقامة الصلاة.
بداية، كنا نظن بأن إيجاد إمام حسن الصوت كفيل بمساعدتنا على السكينة والطمأنينة، لم نفكر في الأخوات الفضليات اللواتي سيشاركننا قاعة الصلاة، وكانت أول تجربة بمسجد “الدرهم”، مسجد بمنتهى الروعة والجمال، شاسع المساحة، طيب الرائحة، صوت حسن وهدوء واطمئنان.. ياالله!!
فجأة.. دخل ياجوج وماجوج، بعد أول ركعتين مطمئنتين، فوجئنا بسرب من النسوة يدخل علينا ومن ورائه نسل الأغراب الصغار، الصنف البشري العادي منهم دخل في الصف الأخير وراءنا، أما المتحورون فشرعوا في غزو الصفوف المتقدمة ودهس ما يقف أمامهم بكل صفاقة، تعالى بكاء الأطفال وصوت الهمهمات المتذمرة والتصفيقات الناهرة.. وطار الخشوع.
في الليالي الموالية، أصبحنا نعرف موعد دخول فرقة الكوموندو تلك، فأقيمت المتاريس البشرية، ولم يسمح لها بسحق ما أمامها في طريقها نحو الأمام،..أفراد الفرقة تلك لم يكن على استعداد لمغادرة مائدة الإفطار إلا بعد أن يبلتعن الاخضر واليابس، لكن تروقهن الصلاة في الصفوف الأولى وظهيرهن في ذلك بسطة في الجسم وقوة جباه ، غير آبهات بمن قدمت من الطرف الآخر للمدينة حتى تصلي في مسجد أنيق وراء إمام يقرأ وفق القواعد.. منتهى الأنانية!.
أكثر ما أجبرنا على الإبتعاد عن ذلك المسجد هي المرأة القائمة عليه، فكثيرا ما كنا ندخل في الصلاة ثم يرتفع الصراخ والسباب القادم من جهة المراحيض، بعد تفاوض فاشل من أجل فك “ضيقة” قد تبطل الصلاة.
بعدها قررنا تغيير العتبة، وارتأينا أن نصلي في مسجد بشارع “طانطان”،.. صعدنا السلالم، نزعنا أحذيتنا، دخلنا مسلمين على العمار ثم فرشنا وكبرنا لأداء تحية المسجد، والعجيب أن أول ما فهم من حركاتنا أداء الصلاة، كثرت الحركة حولنا و أمامنا، صفقنا ومددنا أيادينا منعا لقطع صلاتنا ولكن دون جدوى، الأخوات الفاضلات لم يكن يحلو لهن المرور إلا من أمامنا، بل ومنهن من تجاوزت الرذالة بدرجات، فتعمدت الجلوس في موطن السجود، مصدرة لنا عربتها الخلفية.
ركعتان لم يكن من السهل أداؤهما بالنسبة للمستجدات أمثالنا، أما المحاربات القديمات فكانت تحية المسجد من أسهل ما يكون، كانت الواحدة منهن تفرش للصلاة، تشمر عن ساعديها وتستعين على الشقاء بالله..
تتلو ما تيسر من القرآن الكريم وعيناها تتحركان بكل اتجاه وتمسحان المكان كالرادار، وما إن يقترب منها ما يبطل الصلاه حتى تأخذ بتلابيبه ثم ترميه بعيدا عن القبلة.. ثم يقيم الإمام الصلاة وتبدأ تسوية الصفوف.
من أسوء اللحظات في صلاة التراويح هي تلك ينتهي فيها الإمام من الإقامة وتبدأ النسوة الأميات في نشر الرسالة المحمدية على حدثاء العهد بالإسلام، تنصب الواحدة منها نفسها شرطيا بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تصدر الأوامر بسد الفراغات والشقوق والثقوب منعا لدخول ابليس، تجر هذه وتدفع تلك وتحشر أخرى بين اثنتين، لا رحمة بكبيرة في السن ولا تهاون مع مريضة، وغالبا ما ينفذ صبر أكثرنا حلما، فيشتعل فتيل غضب امرأة ضاقت ذرعا، لتؤازرها أخريات ثم تطرد شرطية المرور بعيدا بعد منازلة لفظية لا يقطعها الا تصفيقات حارة من مسجد الرجال المجاور.
أنا فتاة مرحة وصاحبة نكتة ورفيقتي خفيفة الدم ودائمة البسمة، ظاهرنا الكياتة والرزانة ولكن من السهل أن ندخل في نوبة ضحك تقصم ظهر الهيبة والوقار، كنا حريصات على رصيد حسناتنا، ولذلك كنا أول ما نجتاز عتبة المسجد نفترق حتى لا تلتقي نظراتنا فتنفرط منا الضحكات المكتومة، لكنها كانت كلما تورطت مع شرطية المرور أو حصل لها موقف طريف، بحثت عني مستنجدة فلمحتني وقد غطيت وجهي بطرف “ملحفتي” وجسدي يهتز ضاحكا.. والمرء يتعافى بأصدقائه.
لا يمكن تصور كمية الدموع التي نذرفها ضحكا كل ليلة، ومدى المجهود الذي نبذله اتقاء الغيبة والتنمر، ثم النظرات الصامتة التي نتبادلها في طريق العودة إلى البيت وكيف يتحول ذلك إلى ضحكات مكتومة، تعب اليوم كله ومتاعبه تنسى في صلاة التراويح..
ولا أنسى مرة، عندما أديت تحية المسجد وجلست، فجاءت امرأة من أقصى القاعة تتهادى بكل كبرياء وأنفة، ثم دخلت في الصلاة بنفاذ صبر، وقبل أن يرتد الي طرفي كانت قد انتهت وسلمت..
لم أقرأ عن مثل صلاتها في كتب من تقدم، كانت تقف بعدائية وعيناها تنظران بتحد للسقف، ثم ترسم أشياء في الهواء وتهوي راكعة، بعدها تنكب ساجدة وهي تسبح بعلو صوتها، وقبل السلام كتبت شيئا على كفها، قبلته بشغف ثم سلمت، بعدها رسمت رمزا آخر على الأرض ونظرت إلي، فانفجرت ضاحكة..
المرأة هذه هي نفسها التي كانت تقيم اعوجاج الصفوف، وتسد الفراغات وتجرب في خلق الله حلاوة إصدار الأوامر ولذة السلطة، المتخرجات من المعاهد وحاملات الشواهد العليا كن يتعرضن للتنكيل على يد هؤلاء اللواتي اكتشفن بالأمس القريب بعض الفيديوهات الدينية، فخيل إليهن أن على خلق الله ان يسألوهن قبل أن يفقدوهن.
لكن المعاناة لا تنتهي هنا، فبعد انتهاء صلاة التراويح تبدأ معركة الخروج من عنق الزجاجة “باب المسجد”، هناك حيث النزال غير متكافئ الفرص، فمن وزنها يفوق المائة كيلوغرام وتجيد فنون القتال والدفاع عن النفس، قد تدخل المعترك وتضرب بكتفيها يمنة ويسارا ثم تنحني لتلتقط ما يحلو لها من الأحذية وتخرج، أما من يقل وزنها عن ذلك وتفتقد الجرأة لدخول صراع البقاء ذاك، فكانت تجلس بانتظار خلو المسجد لتحمل حذائها وتنصرف.
لقد أضحكني نقدك اللاذع لهذا الواقع الذي نسأل الله،مخلصين له الدين ، أن يرتفع، فيترك للمسجد وظيفته دون مشوشات، ولا منغصات.. تحجب عن المصلين الخشوع، وتعطل الخضوع لباري البرايا..
لقد عشنا هذه التجارب في مسجد صغير تطوع أحد المحسنين بفتحه في وجه المصلين ،في غير رمضان، خلال الصلوات الخمس..
فلكم تشتد معاناة المصلين مع أحد مرتادي هذا المسجد!؟
إذ يأتي متأخرا،، في الغالب فيقف في آخر الصف وينشط في سبيل الرحلة إلى خلف الإمام، خلال رحلته هذه يستغل الفجوات التي تضيق على الشيطان، يتسلح بالدفع والجر و الوكز والهمهمة بالدعاء للمستهدفين بحملاته تلك..
وعندما تنقضي الصلاة يقوم بكل خشوع ممكن لفضاء من فاته من ركعات..
كان من تعرض لأذاه ينصرف قبل أن يفرغ صاحبنا من قضاء الصلاة والإتيان بالنوافل..
تكررت هذه العمليات شبه العسكرية التي تشبه المداهمة، وغالبا ما ينصرف المصلون دون أن يجهروا لصاحبنا بمخالفته.. إلى أن منعت السلطات الصلاة في المساجد غير المرخصة..