الكولونيل ماجور بابيا ولد لحبيب ولد الخرشي، رجلٌ من طينة نادرة، جمع بين الأصالة الصحراوية والصرامة العسكرية، وبين الانضباط المهني والولاء المطلق للثوابت الوطنية. رحل بصمت في أوائل سنة 2023، لكنه ترك بصمات لا تُمحى في ذاكرة الصحراء، وفي وجدان كل من عرفه عن قرب أو سمع عن مناقبه.
ينحدر بابيا الخرشي من قبيلة أيت يوسى، إحدى القبائل الصحراوية العريقة التي ارتبط اسمها بالنخوة والشهامة والتشبث بالوحدة الوطنية. منذ شبابه الأول، اختار بابيا أن يخوض معركة الانتماء من داخل المؤسسة العسكرية، فالتحق مبكرًا بصفوف جيش التحرير، ثم القوات المسلحة الملكية، ضمن جيل من أبناء الصحراء الذين انصهروا في جسد الدولة، واختاروا عن قناعة مسار الدفاع عن الوطن من داخله.
طوال مساره العسكري، الذي امتد لعقود، تدرّج في المناصب والمهام، إلى أن بلغ رتبة كولونيل ماجور، عن جدارة واستحقاق. لم يكن مجرد ضابط يؤدي مهامه، بل كان رجل ميدان، حاضرًا في كل تفاصيل الأمن بالجنوب المغربي، خاصة على مستوى منطقة وادي درعة ومحيطها الحدودي. عُرف بصرامته مع الجريمة، وحنكته في إدارة الملفات الأمنية المعقدة، وعلى رأسها ملف الهجرة السرية، حيث شارك في جهود الحد من الظاهرة، بتنسيق دائم مع السلطات المحلية والمدنية، كما أشار إليه في تصريح إعلامي نادر عام 2005.
لكن ما يميز بابيا ليس فقط الجانب المهني، بل تلك الروح الوطنية التي ظل ينضح بها في كل محطة. فقد كان من الضباط الذين جمعوا بين البذلة والنَفَس الوطني، بين لغة السلاح، ولغة الانتماء. وقد جسّد هذا الالتزام حين نال وسام الاستحقاق الملكي خلال حفل رسمي ترأسه جلالة الملك محمد السادس، الذي سلّمه وسامًا عسكريًا أمام عدسات الكاميرا، في لحظة امتنان للوطن من أعلى سلطة في البلاد.
برحيله في بداية سنة 2023، فقدت المؤسسة العسكرية أحد رموزها الميدانيين. وقد عبر الملك محمد السادس عن تعازيه الصادقة لأسرة الفقيد من خلال رسالة ملكية مؤثرة، تم تلاوتها في أجواء مهيبة في أواخر مارس من العام نفسه، بحضور مسؤولين عسكريين كبار يتقدمهم قائد منطقة وادي درعة.
إن الحديث عن بابيا الخرشي ليس استحضارًا لصفة ورتبة فقط، بل وقوف أمام سيرة رجل جسّد كيف يمكن للانتماء الصحراوي أن يكون في صلب الدفاع عن الوطن، لا على هامشه. لقد كان جسرًا بين الهوية المحلية والانتماء الوطني، بين القبيلة والدولة، بين الصحراء والرباط.
و رغم ندرة ظهوره الإعلامي، ظل صوته مسموعًا في كل مبادرة لحماية الأمن والاستقرار، وظل اسمه حاضرًا في ذاكرة الصحراء كواحد من أوفى أبنائها، وأكثرهم التصاقًا بقضاياها الحقيقية.
رحل بابيا، لكن روحه باقية، في الثكنات التي مرّ بها، وفي الوجوه التي درّبها، وفي كل شبر من الصحراء التي أحبها و أحبته.