شهدت مدينة الداخلة، مساء أمس الثلاثاء 12 نونبر الحالي، واحدًا من أبرز اللقاءات التشاورية التي تُنظَّم في إطار بلورة جيل جديد من البرامج التنموية الترابية المندمجة، وذلك تنفيذًا للتوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، الرامية إلى تعزيز الرؤية التنموية وجعلها منسجمة مع التحولات المجتمعية والاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها المملكة، في أفق تحقيق تنمية عادلة ومندمجة تستجيب لتطلعات المواطن المغربي وتواكب الدينامية الجديدة للنموذج التنموي الوطني.
حيث حضر اللقاء والي جهة الداخلة – وادي الذهب، إلى رئيس الجهة، و رئيس الجماعة الترابية للداخلة، و البرلماني عن الإقليم، فضلًا عن عدد من رؤساء المصالح الخارجية، و المنتخبين، و البرلمانيين. وقد اتّسم الحضور بالوزن الرمزي و المؤسساتي الكبير، غير أنّ النقاش هذه المرة خرج عن النمطية المعتادة التي تطبع عادة اللقاءات الرسمية.
و صنف عدد من المراقبين والمحللين السياسيين هذا اللقاء ضمن أكثر اللقاءات التشاورية ديمقراطية على مستوى جهات الصحراء الثلاث الجنوبية، إذ أُتيحت الكلمة بحرية غير مسبوقة لمختلف الفئات الاجتماعية: من البحارة و العاطلين إلى المثقفين والفاعلين الجمعويين والسياسيين، فتحول الميكروفون إلى رمزٍ للمشاركة المواطِنة الحقيقية.
بدأ اللقاء بعرضٍ تقني قدّمه مدير المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير والمندوب الجهوي للتخطيط، تضمّن تشخيصًا موضوعيًا لنِقَاط القوة والضعف في المشاريع الجهوية، غير أنّ مجريات النقاش تغيّرت كليًا حين أُعطيت الكلمة للمواطنين، فتحول الفضاء إلى ما يشبه “برلمانًا شعبيًا مفتوحًا”.
و كانت أولى المداخلات القوية لمواطن من قطاع الصيد البحري، الذي وجّه انتقادات لاذعة لما وصفه بتهميش أبناء الداخلة في فرص الشغل والإدارة، قائلًا: “الداخلة لم تعد تُسَيَّر بأيدي أبنائها، بل أصبحت رهينة لمافيات قادمة من الرباط ومن مدن الشمال.” وأضاف محتجًا: “يمنعون القوارب المعيشية بحجة استنزاف الثروة البحرية، بينما يغضّون الطرف عن سفن البيلاجيك التي تجرف البحر بما فيه!”
وقد أثارت كلماته ردود فعل متباينة داخل القاعة، حيث تبادل بعض المنتخبين النظرات بصمتٍ يوحي بعمق الرسالة.
و توالت بعدها مداخلاتٌ شبابية وجمعوية أخرى بنفس الحدة، دعت إلى إنهاء مظاهر الزبونية والاحتكار السياسي، إذ قال أحد الشباب: “السياسة في بلادنا أصبحت إرثًا عائليًا يُتوارث مثل العقارات في طريق زعير، وحان الوقت لتحريرها من قبضة الاحتكار.”
كانت تلك الجملة بمثابة صرخة رمزية في وجه الطبقة السياسية التقليدية.
و في مداخلة إعلامية، شدّد أحد الصحفيين المحليين على أهمية خلق فضاء حرّ للصحافة الجهوية، معتبرًا أن الإعلام شريك أساسي في الحكامة الترابية الرشيدة، منتقدًا في الوقت ذاته ضعف أداء بعض الجماعات القروية التي تحوّلت – حسب تعبيره – إلى أدوات لاستنزاف الميزانيات بدل أن تكون محركات للتنمية.
من جهته، أبان الوالي عن هدوء كبير وقدرة عالية على الاستماع، متفاعلًا بروح رجل الدولة الواعي مع مختلف المداخلات، وهو ما اعتبره المتتبعون دليلًا على نضج في المقاربة التواصلية الرسمية. كما حظي الراغب حرمة الله، رئيس جماعة الداخلة، بتقدير خاص من الحاضرين، باعتباره نموذجًا للشباب السياسي الواعي الذي أثبت أن إشراك الشباب في تدبير الشأن المحلي ليس مغامرة، بل خيار استراتيجي لبناء دولة المؤسسات الحديثة.
لقد شكّل لقاء الداخلة لحظة فرز سياسي واجتماعي جديدة، عبّرت عن مستوى نضج ووعي متقدم لدى ساكنة الصحراء، وأكدت أن صوت المواطن بات جزءًا أصيلًا من المشهد العمومي.
الداخلة اليوم تدخل مرحلة انتقالية من “زمن التسيير التقني” إلى “مرحلة الحكامة التشاركية”، بما تعنيه من قطيعة مع ممارسات الريع والزبونية، وانفتاحٍ على جيلٍ جديد من الكفاءات الشابة الطامحة إلى خدمة الصالح العام بروح المواطنة والمسؤولية.
هنا الصحراء : هند الدليمي



































