لم تتحدث وسائل الإعلام عن أكثر احتجاجات “جيل زد” عنفاً واتساعاً، تلك التي شهدتها كلميم ليلة الأربعاء/الخميس الماضي، المدينة التي عادة ما تُقدَّم في الخطب الرسمية كـ”بوابة الصحراء” كانت، في تلك الليلة، بوابة الغضب القادم من الجنوب. ففي شارع أكادير، الشريان الرئيسي للمدينة، اندلعت مواجهات استمرت ساعات طويلة بين محتجين غاضبين وقوات الأمن، وسط تهميش إعلامي شبه تام وغياب أي تفاعل رسمي يشرح ما جرى أو يجيب عن سؤال بسيط: لماذا خرج كل هؤلاء؟ ولماذا تظاهروا بعنف
لكن ما جرى هناك لم يكن مفاجئاً لمن يعرف حال المدينة، فالإجابة، كما يعرفها أبناء المنطقة، ليست لغزاً.
كلميم اليوم هي عنوان للتهميش الممنهج الذي طال الأقاليم الجنوبية المنسية العالقة ما بين الصحراء وإقليم سوس ماسة، رغم الشعارات المكررة عن التنمية والاستثمار. تقارير المندوبية السامية للتخطيط تصنفها سنوياً بين أفقر الأقاليم وأكثرها بطالة وغلاءً، حيث يعيش أغلب سكانها على تجارة موسمية ضعيفة، بعد أن جفّت مواردها الفلاحية المتواضعة بسبب الجفاف المتواصل منذ أكثر من عقد، مما اضطر الكثير من شباب المدينة إلى الهجرة، والمغامرة لعبور المحيط الأطلسي نحو جزر الكناري، حيث تسجل سنويا عشرات الوفيات من ضحايا هذه الهجرة القسرية.
إلى جانب الأزمة الاقتصادية البنيوية التي يعاني منها الإقليم، هناك فساد بنيوي آخر، يضرب المجالس المنتخبة. فرئيسة الجهة، مباركة بوعيدة (عن حزب الأحرار)، تُدير شؤون الإقليم من الدار البيضاء، على بُعد سبعمئة كيلومتر من مقر الجهة، صرفت ملايير السنتيمات لطلاء شوارع مدينة تفتقد إلى أبسط مقومات المدينة الحضرية، وملايين أخرى لتزيين واجهة مقر مكتبها بالرخام الثمين بينما تغرق شوارع المدينة في الحفر والغبار. أما رئيس الجماعة، الحسن الطالبي، المنتمي إلى نفس الحزب، فحُكم عليه، في أبريل الماضي، بالسجن خمس سنوات بتهمة اختلاس وتبديد المال العام، لكنه لا يزال على رأس المجلس نفسه، يمارس مهامه بشكل عادي، في مشهد يختزل عبثية المشهد المحلي.
خلف هذه الصورة القاتمة، يقف الوالي محمد الناجم بهي (71 سنة)، الذي ترقى من موظف “شبح” برتبة “مساعد متصرف” بوزارة الصناعة التقليدية، إلى منصب والي، أمضى قرابة تسع سنوات في منصبه على رأس الإقليم دون إنجاز ملموس، وقد تحوّل إلى رمز للجمود الإداري والاقتصادي والاجتماعي، بعدما طغت على ولايته مظاهر البذخ والمحاباة، من طرف أعيان الريع، التي ترافق حفلات عائلته وقبيلته الخاصتين، ومضاربات العقار وروائح الصفقات التي ترسى على أعيان محليين لا تخفى علاقاتهم مع مسؤولين نافذين محليين وسط شكوك كبيرة حول وجود تضارب مصالح على أعلى مستوى داخل الإقليم.
من تحت هذا الركام من الفساد والإهمال، خرج شباب كلميم في إطار احتجاجات “جيل زد”، ليس فقط رفضاً للغلاء والبطالة، بل صرخةً ضد التهميش الممنهج والفساد المزمن الذي يخنق الإقليم منذ عقود، ورفضا لمنظومة سياسية واقتصادية فقدت شرعيتها الأخلاقية في نظر شباب المدينة وسكانها.
كلميم، تلك الليلة ، لم تكن حدثاً معزولاً، بل كانت مرآة للوضع العام في المغرب غير النافع: غضب مكبوت، فساد بلا مساءلة، وهامش لم يعد يقبل الصمت والتفرج . فما وقع في كلميم ليس مجرد حدث محلي، بل هو مؤشر على عمق الأزمة التي تدفع مدناً وأقاليم مهمشة بأكملها إلى الهاوية، في ظل استمرار سياسة الإنكار وشراء الوقت بدل مواجهة الأسباب الحقيقية للغضب.
ما حدث في كلميم هو تحذير واضح من أن المغرب العميق بدأ يتكلم لغته الخاصة، وأن تجاهل صوته قد يدفع البلاد إلى مواجهةٍ أعمق بين مجتمعٍ يطالب بالكرامة وسلطةٍ محلية فاسدة تصر على الصمت وتجاهل مطالب الشعب.