ذهب تشاد : كنٌز ملعون بين الصراع و الفساد..هل تشرق شمس التنمية أخيراً

هيئة التحرير6 يوليو 2025
ذهب تشاد : كنٌز ملعون بين الصراع و الفساد..هل تشرق شمس التنمية أخيراً

 

تزخر أرض تشاد بكنوز معدنية تُضيء باطنها، وعلى رأسها الذهب الخالص، الذي كان من المفترض أن يكون تذكرتها نحو الرخاء والازدهار. لكن المفارقة المأساوية أن هذا الكنز غالباً مايتحول إلى مصدر للفوضى، يغذي الصرعات، ويُغرق البلاد في دومة لا تنتهي من التحديات. فبالرغم من كونه أحد أبرز ثروات تشاد الطبيعية، يواجه قطاع الذهب تعقيدات جمة في الإدارة، الرقابة، والأمن، مما يحرم الدولة والمواطنين من الاستفادة الكاملة منه.

أين يختبئ الذهب التشادي؟ “كنوز” في قلب الفوضى!
يُعد الذهب التشادي من أنقى الأنواع، ببريق يتراوح بين 21 و24 قيراطاً، يتركز في مناطق حساسة ومُشتعلة:
– تيبتسي(الشمال): هذه المنطقة الحدودية مع ليبيا هي خزان الذهب الأكبر في تشاد. منذ اكتشافات عام 2012، تحولت إلى بؤرة صراع لا تهدأ، تجذب آلاف المنقبين وتغرق في اشتباكات دوية على الكنز. رغم توقيع اتفاق تاريخي في أبريل 2025 لتهدئة الأوضاع في ميسكي بعد سبع سنوات من الصراع، يبقى السؤال معلقاً: هل سيصمد هذا السلام الهش أمام إغراء الذهب الذي يزال يشعل نيران النزاعات في منطقة كوري بوغودي الحدودية؟
– ولايتا البطحاء(الوسط): منطقة أخرى غنية يالذهب،تُضاف إلى قرية غاغا ومناطق أخرى في الجنوب الغربي. يُستخرج الذهب هنا بشكل بدائي، غالباً على شكل ” الذهب الحر” (Gold Nuggets)، مما يثير تساؤلات جدية حول استدامة هذه الثروة في ظل غياب الرقابة وتفشي الصراعات التي تُحوّلها من نعمة إلى نقمة.

تعدين الذهب: فوضى ” حرفية” وسيطرة ” عائلية”؟
يُهيمن التعدين الحرفي والتقليدي على مشهد استخرج الذهب في تشاد. آلاف المنقبين، المحلين والأجانب، يتدفقون على المناجم، مستخدمين أدوات بدائية ومركبات سامة كالزئبق، ما يُخلّف كوارث بيئية وصحية جسيمة. تجعل هذا القطاع العشوائي هو مرتع للنزاعات والتهريب، ويهدر جزءًا كبيراً من الثروة.
أما التعدين الصناعي، فهو محدود النطاق للغاية، وتُسيطر عليه عدد قليل من الشركات، تُشير تقارير إلى أن بعضها، مثل شركة ” جيميا مينيرال”، لها علاقة وثيقة بالعائلة الرئاسية. هذا يثير علامات استفهام كبرى حول عدالة توزيع الثروة وإمكانية إحتكارها من قبل قلة، مما يفاقم من شعور المواطنين بالحرمان.

لعنة الذهب ثروة تائهة في متاهة التهريب والفساد!
لماذا تظل تشاد فقيرة رغم ذهبها؟ الإجابة تكمن في عقبات كارثية تمنع الاستفادة الحقيقة من هذا الكنز:
– نزيف التهريب: تُفقد الدولة مليارات الفرنكات سنوياً بسبب شبكات التهريب الدولية المنظمة التي تنشط عبر الحدود، خاصة إلى ليبيا والسودان.
هذه الأموال، التي يمكن أن تُحدث فارقاً في حياة الملايين، تُستنزف لتغذي جيوب العصابات والكيانات غير الشرعية.
– الفوضى الأمنية: مناطق الذهب هي أرض خصبة للصرعات والاشتباكات التي لا تنتهي، مما يجعل أي استثمار منظم أو تنمية مستدامة أمراً شبه مستحيل.
– الفساد المستشري: آفة تلتهم جهود تنظيم القطاع وتُعرقِل أي إصلاح حقيقي، مما يجعل الثروات المعدنية عرضة للاستغلال غير المشروع.
– أضرار بيئية وصحية كارثية: استخدام الزئبيق في التعدين البدائي يُدمّر البيئة ويُهدد حياة المنقبين والسكان على حد سواء، ليُضاف إلى قائمة التكاليف البشرية ” للعنة الذهب”.

الوجه القبيح للذهب: من المستفيد الحقيقي؟
في غياب التنظيم والرقابة الصارمة، لا يستفيد الشعب التشادي من الذهب على الاطلاق. بدلاً من ذلك، تُصب الأرباح الهائلة في جيوب:
– شبكات التهريب الدولية والكيانات التجارية التي تعمل في الخفاء.
– ليبيا كوجهة رئيسية ومستفيد كبير من الذهب المهرب.
– دبي كمركز عالمي لإعادة صهر الذهب المهرّب، مما يطرح تساؤلات حول آليات الرقابة الدولية.
– بالإضافةإلى دول أخرى كوجهة نهائية للمجوهرات أو الاستثمار.
بينما تخسر الحكومة التشادية إيرادات ضخمة، تزدهر الجماعات الإجرامية، والمسلحة، والتجار المحليون، مستغلين الفراغ الأمني وغياب سيادة القانون في المناطق الحدودية. هل يمكن لدولة أن تبني مستقبلها على ثروة تُسرق علناً أمام أعين الجميع؟

حرب تشاد الشاملة: هل تستعيد بريقها المفقود؟
في محاولة يائسة لاستعادة كنزها المسروق، تشن الحكومة التشادية ” حرباً شاملة” على تهريب الذهب والتعدين غير القانوني، مرتكزة على:
– القبضة الأمنية والعسكرية: عمليات عسكرية مكثفة لفرض السيطرة على تيبستي والمناطق الحدودية.
-إصلاح قوانين: مراجعة شاملة للتشريعات لضمان الشفافية ومكافحة الفساد في القطاع.
– التعاون الدولي: شراكات حيوية مع مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC)، والاتحاد الأوروبي لمواجهة الجريمة المنظمة العابرة للحدود.
– مبادرات مجتمعية: إبرام اتفاقيات محلية، مثل اتفاق ميسكي التاريخي، بهدف إنهاء النزاعات وبناء السلام المستدام. تهدف هذه الجهود المتكاملة إلى تحويل الذهب من مصدر فوضى إلى محرك حقيقي للتنمية. لكن طريق تشاد لتحقيق الاستفادة الكاملة من ذهبها لا يزال وعراً، محاطاً بغياب الاستقرار الأمني، ضعف البنية التحتية، الفساد المستشري، وتعقيد التهريب العابر للحدود. والأهم، أن الاعتماد الاقتصادي لآلاف المنقبين على النشاط غير المشروع يُشكل تحدياً اجتماعياً واقتصادياً هائلاً، يجعل أي تغيير صعباً ومقاوماً.

هل تشرق شمس التنمية على ذهب تشاد المفقود؟
تدرك الحكومة التشادية أهمية تحويل الذهب من لعنة صراع إلى قاطرة ازدهار. لكن تحقيق هذا الحلم يتطلب جهوداً متواصلة، متكاملة، وشاملة من جميع الأطراف، تتجاوز مجرد الحملات الأمنية لتشمل تنمية حقيقية للمناطق المتضررة.
فهل تتمكن تشاد من تجاوز هذه العقبات الجسام، وتحرير كنزها الكامن من قبضة الفوضى والتهريب؟ وهل سيُكتب للذهب التشادي أن يُنير درب التنمية بدلاً من أن يُلقي بظلاله المظلمة على مستقبل أمة بأكملها؟ هذا هو السؤال الذي سيُحدد مصير تشاد في السنوات القادمة، ويُجيب إذا كانت هذه الأمة الفقيرة ستنجح في تحويل لعنة الذهب إلى معجزة اقتصادية.

هنا الصحراء : الشيماء عبدالرحمن

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *