المغاربة لا يحتاجون إلى “نقطة نظام”: ردّ على خطاب التمييز المقنّع للسيدة فاطمةالزهراء ماءالعينين

هيئة التحرير13 نوفمبر 2025
المغاربة لا يحتاجون إلى “نقطة نظام”: ردّ على خطاب التمييز المقنّع للسيدة فاطمةالزهراء ماءالعينين

 

جليلة آل اليزيد : كاتبة رأي وسياسية مقيمة في السويد

في الأوطان التي وعت معنى الانتماء، لا يحتاج المواطن إلى من يذكّره بأنه جزء من وطنه، ولا إلى من يُعيد تعريف مفهوم المواطنة وفق خرائط جغرافية أو تصنيفات اجتماعية.
قرأت، كما قرأ كثير من المغاربة، المقال المعنون بـ«نقطة نظام» الذي حاولت كاتبته – من موقعها الأكاديمي والسياسي – أن تعيد ترتيب العلاقة بين “الشمال” و”الجنوب”، وبين “الصحراويين” و”غيرهم”. غير أنّ الخطاب، وإن بدا في ظاهره توفيقيًا، ينطوي في عمقه على تمييز غير معلن، ويكرّس ما يُفترض أن نكون قد تجاوزناه منذ عقود: منطق الجهوية الضيّقة، واستدعاء الأدوار والمقارنات بين أبناء الوطن الواحد.

المغاربة لا يحتاجون إلى “نقطة نظام”. لأن نظامهم هو وطنهم، ولأن وحدتهم ليست موضع نقاش أو مراجعة في قاعة فكرية أو منبر إعلامي.
فاللغة ليست بريئة حين تُستعمل عبارات مثل «الصحراويون ليسوا كائنات فضائية» أو يُشار إلى “فكرة سائدة لدى مواطني الشمال” بأنهم “ضحّوا من أجل أهل الصحراء”، فإننا أمام خطاب يختزل هوية وطنية في ثنائيات ضيّقة.
قد تكون النية حسنة، لكن الألفاظ تحمل في طيّاتها ما لا تقوله مباشرة. فحين نبرّر الانتماء، نُضعف مفهومه. وحين نُذكّر بمواطنة فئة، فإننا – من حيث لا نشعر – نفترض وجود شكٍّ في تلك المواطنة.
الثقافة الحسانية لم تأتِ من فراغ، ولا هي طارئة على جسد المغرب. هي جزء أصيل من فسيفساء الهوية المغربية، مثل الأمازيغية والعربية واليهودية والموريسكية، شكّلت جميعها عبر قرون “المغربية” التي نعرفها اليوم.
من تافيلالت إلى الكويرة، وحينما اقول تافيلالت – فلأنها أرض أجدادي الشرفاء من أهل البيت- ومن الأطلس إلى الصحراء، ومن طنجة الى الصحراء الشرقية، ومن الحسيمة الى الداخلة، ومن تطوان الى العيون والسمارة، تمازج الدم المغربي والثقافة المغربية في سبيكة واحدة، لم تُعرف فيها حدود غير تلك التي رسمها الاستعمار مؤقتًا ومحاها التاريخ لاحقًا.
كما أن التنمية ليست منّة بل حق،
فمنذ استرجاع الأقاليم الجنوبية سنة 1975، تبنّت الدولة المغربية – بقيادة الملك الحسن الثاني رحمه الله ثم الملك محمد السادس نصره الله – إستراتيجية تنموية غير مسبوقة في تلك المناطق.
لقد تحوّلت الصحراء، التي كانت شبه خالية من البنى التحتية، إلى نموذج للتنمية المندمجة.
ففي عهد الحسن الثاني:
– أُطلقت مشاريع أولية لربط العيون والداخلة بباقي مدن المملكة.
– بُنيت موانئ الصيد الأولى في العيون والداخلة، ما جعل المنطقة أحد أهمّ مراكز الصيد في إفريقيا.
– رُصدت اعتمادات ضخمة لتوطين السكان وتوفير الخدمات الأساسية رغم الظروف الأمنية الصعبة وحرب الاستنزاف مع خصوم الوحدة الترابية.
و في عهد محمد السادس:
– أُعلن عن “النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية” سنة 2015، بميزانية قاربت 85 مليار درهم تشمل أكثر من 700 مشروع في مجالات الطرق والموانئ والطاقة المتجددة والتعليم والصحة.
– مشروع الطريق السريع تيزنيت–الداخلة (حوالي 1 100 كلم) كلّف ما يقارب 10 مليار درهم.
– ارتفع طول شبكة الطرق المعبدة في الأقاليم الجنوبية من أقل من 300 كلم سنة 1975 إلى أكثر من 4000 كلم سنة 2024.
– نسبة التمدرس تجاوزت 97%، وهي من أعلى النسب الوطنية، ونسبة الربط بالكهرباء والماء تقارب 100%.

هذه الأرقام لا تمثّل “منّة” من أحد على أحد. إنها واجب الدولة تجاه جزء من ترابها ومواطنيها. كما أنّ تمويل هذه المشاريع تمّ من الميزانية العامة، أي من ضرائب وإنتاج كل المغاربة، شمالًا وجنوبًا ووسطًا. فالتنمية في الجنوب ليست هبة من الشمال، كما أنّ البنى التحتية في طنجة أو الناظور أو فاس ليست منحة من أحد على أحد.
فالوطن شبكة مترابطة من المصالح والتضحيات المشتركة، لا مجال فيها لمعادلة “مَن أعطى ومَن أخذ”.
“إنّ الشمال لم يمنّ، والجنوب لم يستجْدِ”
صحيح أنّ المغاربة في الشمال، عبر عقود، ساهموا من خلال ضرائبهم وجهودهم في تمويل المجهود الوطني في الصحراء، لكن ذلك لا يجيز لأيٍّ كان أن يختزل هذه العلاقة في ميزان المنّ أو الفضل.
حين كانت الصحراء ساحة مواجهة مع الانفصال، كان أبناؤها في صفوف الجيش المغربي يذودون عن الراية الحمراء، إلى جانب إخوانهم من فاس والريف وسوس، ومن كل شبر من الخريطة المغربية.
الدم المغربي اختلط في رمال الصحراء، فصار شعار «الله الوطن الملك» ليس شعارًا فقط، بل عقدًا من دماء وتاريخ مشترك.
لم تكن المعركة معركة “الشمال عن الجنوب”، بل معركة الوطن كله ضدّ الانقسام. ومن الظلم التاريخي أن يُختزل هذا الإرث في حكاية امتيازات أو مقارنة بين من ضحّى ومن استفاد.
أما إذا أردنا الحديث عن الاقتصاد الوطني، فهو لا يُقاس بالبوصلة الجهوية.
حين تُطرح أرقام التنمية في الأقاليم الجنوبية وكأنها “استثناء تفضيلي”، يُفهم ضمنًا أنّ بقية الجهات حُرمت من حقها. والحقيقة أن الدولة المغربية واجهت – لعقود – معضلة العدالة المجالية في كل التراب الوطني، وليس في الجنوب وحده، كما أن التفاوتات التنموية بين الريف والوسط والساحل ليست وليدة قضية الصحراء، بل هي نتاج سياسات تراكمية منذ الاستقلال.
تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لسنة 2023 أشار بوضوح إلى أن حجم الاستثمار العمومي في الجهات الجنوبية يفوق المعدل الوطني بـ 31%، لكنه في الوقت نفسه أكّد أن مردودية هذه الاستثمارات لا تزال متوسطة بسبب محدودية النسيج الاقتصادي المحلي.
بمعنى آخر: الأموال وُجّهت، لكن التوازن في النتائج ما زال يتطلب وقتًا، شأنه شأن باقي الجهات.
فإذن فليس هناك “انحياز للجنوب” ولا “تهميش للشمال”، بل محاولة لتصحيح اختلالات تاريخية، ولتعويض عقود من العزلة التي فرضتها ظروف سياسية وجغرافية معقدة.

ثمّ إن القضية الوطنية ليست مادة للمزايدات
القضية الصحراوية هي عنوان السيادة المغربية ووحدتها الترابية. وقد حُسمت في وجدان الشعب قبل أن تُحسم في المحافل الدولية.
منذ المسيرة الخضراء، جعل المغاربة من الصحراء رمزًا للوحدة لا مجال فيه للمزايدة ولا للتباهي بالتضحيات.
حين يتحدث البعض عن “تمييز” أو “امتيازات”، فإنه ينسى أن آلاف الجنود المغاربة – من كل الجهات – ما زالوا يرابطون في الصحراء، وأنّ الدولة تنفق سنويًا مليارات الدراهم على البنى العسكرية والأمنية لحماية هذا الجزء العزيز من الوطن.
فهل يُعقل بعد خمسين عامًا من المسيرة الخضراء أن نعيد فتح نقاش “من ضحّى من أجل من”؟
أليست هذه العودة إلى خطابٍ تقسيميٍّ نحن في غنى عنه، خصوصًا في لحظة تاريخية اعترفت فيها القوى الدولية بجدوى مبادرة الحكم الذاتي المغربية تحت السيادة الوطنية؟
فأين نحن من خطورة التوصيفات غير الدقيقة؟
في الكتابة السياسية، الكلمة موقف، والمصطلح سلاح.
حين نستخدم تعبيرًا مثل “كائنات فضائية” – حتى لو على سبيل المجاز – فنحن نفتح بابًا خطيرًا في اللاوعي الجماعي. فالكلمات تخلق صورًا ذهنية، والصور تترك أثرًا في المخيال الاجتماعي.
من غير المقبول، في سياق أكاديمي أو حقوقي، أن يُوصف مكوّن وطني أصيل بهذه الطريقة، ولو بنية النفي أو التهكم. لأن في ذلك ترسيخًا لفكرة أنّ “الآخر” يحتاج دائمًا إلى تبرير وجوده داخل الوطن.
الثقافة الحسانية ليست هامشًا في الهوية المغربية، بل أحد أعمدتها الراسخة. لقد أسهمت في الشعر والفقه واللغة والسياسة، ومن رحمها خرج قادة المقاومة والعلماء والفقهاء.
إنّ من يتحدّث عن “سكان الصحراء” كأنهم “موضوع دراسة” يغفل أنهم من صُنّاع التاريخ المغربي، لا من هوامشه.
فمنطق “نقطة النظام” ومغالطة الخطاب لا مكان له في سياق وحدة المواطنة
إن عنوان المقال الأصلي “نقطة نظام” يوحي بأن الكاتبة تتحدّث من موقع الموجِّه أو المصلح، وأن المجتمع في حاجة إلى تقويم فهمه للأقاليم الجنوبية.
لكن الحقيقة أنّ المغاربة، على اختلاف مشاربهم، تجاوزوا منذ زمن هذه الثنائية. فاليوم حين يُرفع العلم في الداخلة أو الرباط أو الحسيمة، لا يسأل أحد: من أي جهة أنت؟
الانتماء الوطني صار حقيقة يومية يعيشها المواطن في السوق، في المدرسة، في المعبر الحدودي، وفي الإنترنت قبل أن تكون في الخطب السياسية، التي طالما كانت سببا في التفرقة والتمييز .
من هنا يبدو عنوان “نقطة نظام” متجاوزًا لزمنه. فالمغاربة اليوم لا يحتاجون من يذكّرهم بوحدتهم، بل يحتاجون من يواكب وعيهم الوطني بخطاب جديد يتجاوز الجغرافيا نحو التنمية المشتركة.
فأنا أدعو لخطاب وطني بديل:
لأن المرحلة الراهنة التي يعيشها المغرب – مع تزايد الاعتراف الدولي بسيادته على أقاليمه الجنوبية – تقتضي خطابًا وطنيًا ناضجًا يوازي هذا الانتصار الدبلوماسي- الذي لازال يسير على خطى اليقضة بكثير من المصابرة- خطاب يُعلي من قيم المواطنة المتساوية، ويكرّس فكرة أن كل درهم يُستثمر في جهة مغربية هو استثمار في الوطن كلّه.
فالمغرب والمغاربة بحاجة إلى لغة تُعيد بناء الثقة بين المواطنين والدولة، لا إلى لغة تُحصي الفروق وتستدعي النعرات.
إنّ الرهان اليوم ليس في مناقشة “من له الامتياز”، بل في ضمان توزيع عادل للثروة وتكافؤ للفرص بين الجهات.
وفي هذا السياق، فإن الثقافة الحسانية بما تحمله من قيم الكرم والشهامة والصدق يمكن أن تكون رافعة أخلاقية لمشروع وطني موحّد، لا موضوعًا للنقاش حول المواطنة والانتماء.
ألا نتعلم من دروس التاريخ؟
منذ دولة المرابطين والموحدين، كان الامتداد الصحراوي للمغرب مصدر قوته لا عبئًا عليه.
من الصحراء انطلقت جيوش عبد الله بن ياسين، ومن سوس والسمارة خرج العلماء والقضاة الذين أسّسوا لمدارس فقهية امتد تأثيرها إلى الأندلس والسودان الغربي.
التاريخ المغربي لا يُقرأ من الشمال إلى الجنوب، بل من الجنوب إلى الشمال أيضًا.
وحين نغفل هذه الحقيقة، نختزل تاريخًا طويلاً من التفاعل والتكامل في مجرد جغرافيا.
إنّ ما تحتاجه المملكة اليوم ليس “نقطة نظام”، بل نقطة وعي.
وعي بأننا تجاوزنا زمن التصنيفات، وأنّ المواطنة لا تُقاس بالجهة أو اللكنة أو اللباس.
الصحراوي، الريفي، السوسي، الفاسي، كلّهم مغاربة بالهوية والممارسة والولاء.
ولئن تعدّدت ثقافاتهم ولهجاتهم، فإنّ جوهرهم واحد: البيعة للعرش، والإيمان بالوحدة، والاعتزاز بالتنوّع.

كما أنني أدعو الحقوقية فاطمة الزهراء ماء العينيين، من موقعها كمسؤولة إلى أن نترك خلفنا خطاب المظلومية والامتياز، ولنُجمع على خطاب الوطن الجامع.
فمن أراد أن يكتب “نقطة نظام”، فليكتبها في اتجاه التنمية المشتركة، لا في ميزان المفاضلة بين أبناء الوطن الواحد.ذلك هو النظام الحقيقي الذي يحتكم إليه المغاربة منذ قرون: نظام المواطنة، لا نظام الجهة، كما أن المغاربة اليوم هم في أمس الحاجة الى نقطة وعي ونقطة إلتقاء.
أما ” نقطة النظام” التي دعت لها كاتبة المقال، فهي نقطة مفرقعة، نقطة انفصالية في دلالة الخطاب لا نقطة توحيد و وحدة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *