“ابداي..!!”

نجاة حمص14 يوليو 2025
“ابداي..!!”
نجاة حمص

في السنوات الأولى من طفولتي، أرسلوني لشراء الخبز، “الكومير” على وجه التحديد،..كان صاحب المحل كهلا يتحرك بصعوبة، معروف بحدته وصرامته وصوته الجهوري، سبق لي ان أثرت سخطه عندما سألته يوما بعينين بريئتين عن الخرقوم، لكنه ترجمه لي إلى زعفران، وظللت متشبثة بالمصطلح الخرقومي وهو مصر أن الخرقوم هو الزعفران، وهذا ما لم تقله والدتي وهو لن يعرف أحسن من أمي بالتأكيد.

كان لا يزال يداوم، يلبس الملابس العسكرية صباحا والدراعة مساء، يتكئ “متمرفقا” على وسادة داخل دكانه البسيط، وبجواره راديو عتيق، ينصت إلى الأخبار وهو يقلب الشاي، أو يضع شريطا في المسجلة ويتسلطن على “بنض” معلوم، يحرك رأسه أحيانا أن ” حح” “اسكي”، أو يغمض عينيه في استمتاع وهو يتلذذ بالنغم بأذنيه والشاي بفمه.. ثم أدخل أنا كهادم اللذات “جاك لخبز؟”.

نقرت النضد الزجاجي مرة أخرى بطرف قطعة النقود، فأطل برأسه متبرما، ابتسمت لتلطيف الأجواء ثم سألته مجددا :”عندك لخبز؟”

أنزل نظارته ووضعها على أرنبة أنفه وهو يحدجني بنظرة متحدية “ابداي”، ظننت أنه يطلب مني إعادة السؤال فقلت له مرة اخرى” عندك لخبز؟”، أصر على أسنانه وبحلق في ثم أجاب بحروف متقطعة “أ.ب.د.أ.ي”، فابتسمت وقد أعجبتني اللعبة ” عندك لخبز؟”.

حينها سكت المسكين للحظة، ثم مط شفتيه وهرش بقايا من شعر على قفاه، أزال نظارته وتخلى عن هيبته وقد احمرت عيناه وخرج زبد غريب من طرف فمه :” ابداااااي..ابداي. .ابداي..يعني ماهو خالك..ماهو كاين..غير موجود”.

لا أعلم أن كان الخرقوم هو السبب أم “ابداي”، لكنه كان كلما لمحني قادمة اختبأ وأوكل خدمة الزبناء إلى إبنه، رحمه الله كان يتمتع بصبر لم يرث منه الابن اي غرام، فأول إختلاف في الاصطلاح جعله يفقد أعصابه ويتهمني بمحاولة شله وقتله قبل الأجل ببرودي الأسطوري ونظرتي البريئة .. عن سبق إصرار وترصد.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *