خيم الضباب على مدينة كلميم، صباح ذاك الأحد دجنبر من عام 2016، على الأسطح تتساقط قطرات الندى، وعلى شرفات النوافذ تتخاطب العصافير بصوتها المعتاد، وبعيدا هناك بزنقة الكويرة فوق قمة المسجد عش طائر الحمام يطعم صغاره، لعلها ساعة بركة.
في المنزل لا صوت يعلو فوق صوت الأم عائشة التي تتوضأ استعدادا للصلاة، وبمحاذاتها، في المطبخ صوت “براد شاي”، وهو يغلو فوق “مجمر الفحم”.
_سبحان الله سبحان الله لاإله إلا الله، تردد عائشة.
تدخل بيتها المتواضع الذي تفوح منه رائحة البخور، والخزامة، تتوسطه في المنتصف سجادة، مطروزة يدويا، وفي الجانب المقابل للبيت على الرف جهاز راديو نال منه الدهر، والقليل من السواك والبخور.
ترفع عائشة يداها للتضرع بعدما أنهت صلاتها، فبالرغم من قلة بصرها، إلا أن بصيرة إيمانها، جعلت منها إمرأة حكيمة طاعنة السن.
تتوجه عائشة البالغة من العمر حوالي 75 سنة، بخطوات متثاقلة، نحو المطبخ لتعد “طابلة الفطور”، زيت، أملو، خبز، وشاي، أخيرا تستقر بـ”المراح”، باحة المنزل، تنادي بصوتها المعتاد، محمد…محمد… “كوم كوم تابعتنا الطريك”، أي انهض انهض سنسافر.
يستيقظ محمد على عادته، متوجها نحو تقبيل رأس جدته.
_صباح الخير، يقول أحمد.
_صباح الخير، إذهب للوضوء وتعال لتفطر، سنذهب لمدينة الأخصاص، عند “الشريفية”، فقد نقص بصري، لعل “البركة” تكون على يديها، وتعود جدتك للرؤية بوضوح مجددا وتراك تكبر أمامها، بضحكة ظريفة تمازحه.
الساعة تشير إلى 9:00 صباحا، توجهت الجدة والإبن إلى محطة الطاكسيات. أكادير..أكادير.. تزنيت..تزنييت. من بعيد يردد أرباب الطاكسيات في صف موحد الأخصاص الأخصاص..
_جدتي هيا هناك طاكسيات، الأخصاص..
يتمسك الإبن بجدته، وذراعها في منتصف خاتم ذراعه، بخطوات بطيئة يتوجهان إلى الطاكسي رقم 112، تجلس الجدة، في المقعد الأمامي، وتشمر “ملحفتها”، لباس تقليدي صحراوي، من تحت قدميها، ومسواكها في فمها. إنطلقت الطاكسي. في الأفق تظهر علامة التشوير بخط عريض “الأخصاص 66 كلم”.
الساعة 10:30 صباحا من يوم الأحد، وصلت الجدة والإبن إلى مدينة الأخصاص، متوجهين هذه المرة بقيادة الجدة إلى دار الشريفية. خارج المنزل، جدران بطابع عريق، وباللون الأصفر والأسود حزام مرسوم بمحاذاة الجدار ، وأمام باب المنزل نوع الشجر، ربما “الكاليبتوس”، وفي الباحة الخارجية للمنزل، القليل من أنواع الخضر، “القزبور” و”المعدنوس”..
_تدق عائشة باب منزل “الشريفية”، مرتين، وبصوتها الخافت “الشريفية..الشريفية..نتي هون؟
من داخل المنزل، صوت يلوح قائلا: شكون؟
_أنا عائشة عائشة، افتحي الباب.
تفتح “الشريفية” الباب، بلباسها التقليدي المعتاد، واضعة حلقتين كبيرتين على أذنها، تتوسط خذوذها حفرتين صغيرتين، بفلجة تشق منتصف أسنانها، تستقبل المرأة، الجدة عائشة، مرحبا بك مي عائشة، لم نلتقي منذ مدة، هل تزوجتي؟ ونسيتي صداقتنا، تمزح “الشريفية”.
_أسكتي ابن إبنتي معنا، هيا لندخل.
من باب المنزل، إلى عمقه تغمرك برودة طبيعية، ورائحة طين الجدران تسافر بك إلى عوالم أخرى، وظل الفناء الداخلي يوحي لك أنك بين جبلين بينهما “برزخ واد لا يلتقيان”، توجه محمد رفقة جدته، إلى غرفة تغمرها السكينة والهدوء، ويتوسطها فراش عليه زخرفة بألوان متفتحة، خاصة بالمنطقة.
تدخل الشريفية، وهي تقول، مي عائشة، عيناك صح ؟
_نعم، تردد عائشة.
بقبالة محمد، تجلس “الشريفية” على ركبتيها، وتأخذ القليل من الكحل الأسود، وتمرره على لسانها، وتفتح عين الجدة، و”تلعق مقلة عينيها”، مرددة كلمات لا تفهم، وفور سحب لسانها، تخرج “الشريفية”، الحصى من أعين الجدة، حصى أسود صغير، كأنه رصاص “البندقيات” التي تستعمل في عروض الخيل، على يمينها تضع إناء أبيضا دائري، تضع فيه الحصى المستخرج وتغسل لسانها بالقليل من الماء، تكرر المرأة العملية ثلاث مرات.
عائشة، كيف تشعرين؟
_لابأس الآن أفضل، أحس بالارتياح في عيني، وبرودة في جفوني، لكنهما ضبابيتين.
_لا عليك ستكون الأمور بخير.
تتابع الشريفية، بملامح صارمة، هذه المهنة كنت أزاولها منذ سنوات، وعديد الناس كانوا يأتون إلي من مختلف أنحاء المملكة، وخارجها، حيث كنت أقدم لهم بركة أجدادي، وشفي عديد الناس على يدي، ولو بمقابل بسيط، فقط كان همي هو أن يشفى الناس من أسقامهم، فالأجر، ودعوات الخير، خير لي من الدنيا ومافيها.
في الزاوية هناك تجلس إمرأة طاعنة في السن، ترتدي ملحفة، بألوان فاقعة تسر الناضرين، متربعة القدمين، اعتلى الشيب رأسها، وحاجبيها، على محياها نور رباني، وبين يديها سبابة، تسبح بحد قولها: آناء الليل وأطراف النهار، تقول بصوت يعتليه من الرزانة ماتتسم به: الشريفية من النساء اللواتي، يقدمن المساعدة للقاصي والداني، لم تبخل علينا يوما بحكمتها التي وهبها الله إياها، عدد من الناس تداووا على يديها، فهي السبب، مستشهدة بمقولة “سبب ياعبدي ونا نعاونك”.
تنحني “الشريفية”، التي لم تنطق بإسمها الحقيقي، تقرأ المعوذتين، وآية الكرسي، وتمرر يديها على رأس الجدة عائشة، التي بدورها نشرت صفحة يديها، للدعاء مع “الشريفية”، وطلب التيسير لها، مرددة، اللهم “أنصرها ولا تنصر عليها”، في الجهة المقابلة تردد العجوز، أمين أمين.
تقول “الشريفية”: “أزيد من ثلاث عقود وأنا أشتغل بهذه المهنة، وتراود علي أناس من مختلف الطبقات الإجتماعية، والفئات العمرية، ولم يسبق لي أن تصادفت مع شخص كريم مثل، أمي عائشة، فعملي لايقتصر على النقود بالدرجة الأولى”، قائلة بالحرف الواحد: “عايشين مع لجواد”، في مواجهة صعوبات الحياة، ومصاريفها، كما أن أبنائي يعيشون على ما جادت به أيادي الناس ودعواتهم.
أدخلت عائشة يديها نحو صرتها بجانب بطنها، وأخرجت ورقة نقدية من فئة 50 درهما، مدتها “للشريفية”، مقابل ماقامت به، فلا يقتصر عملها فقط على “لعق الأعين”، بل تداوي بالحجامة، وتدليك أماكن الألم، كما أنها تعمل لساعات متواصلة طيلة اليوم، وخلال أيام العطل الأسبوعية، فقد كلفت نفسها بعمل إنساني، يقوم بشفاء المرضى من أمراضهم. بحد تعبير الشريفية.
غادرت عائشة ومحمد، منزل “الشريفية”، اتجاه مدينة كلميم، تاركة وراءها جدرانا تفوح منهما رائحة الخيزران والطين، وبركة الأجداد، كما يصفها المجتمع المغربي، ناول محمد جدته قطعة قماش قطني، مررته الجدة على عينيها ونسيم ذاك الصباح، يداعب رموشها، فتحسن نظرها على حد قولها، مرددة “سبحانك يالله توتي الحكمة من تشاء”.
على عتبات الشارع، إتخذت الجدة هي وابن ابنتها، مكانا قصيا، تننتظر”طاكسي”، متجها لمدينة “كلميم”، لحظات حتى توقف الطاكسي، وركبا نحو وجهتهم الأخيرة، بعد الشريفية. على اللافتة “مرحبا بكم في كلميم “وصلت الجدة هي ومحمد لمحطتهم الأخيرة، بعد يوم شاق، أخيرا استعادت الجدة عافية عينيها ولو بشكل تدريجي، متيقنة من حكمة الله في عباده.
هي ربما حكمة ربانية تلك التي نالتها “الشريفية” كما يسمونها، أو ربما مجرد خرافات تناقلتها عبر الأجداد والأسلاف، فلا مجال للعلم للمقارنة بين العلم والتداوي ببعض ما يسمى بـ”الطلاميس”، فلا دواء سوى بأسماء الله.