عرفت مدن الصحراء في الآونة الأخيرة تنامي وتنوع أشكال العمل التطوعي داخل المجتمع المدني، وبالرجوع إلى مسار العمل التطوعي بالأقاليم الجنوبية بين الأمس واليوم، نجد أنه بالماضي كان الأمر يقوم على أساس روابط الدم والقرابة ووحدة الإنتماء للمجال، وتهيمن عليه سلطة القبيلة، إذ يكون فيه التطوع واجبا جماعيا وليس اختياريا.
وهذا العمل التطوعي يطلق عليه في الثقافة الحسانية ” اللوحة “، وهي ضريبة تطوعية ولكن الأعراف القبلية جعلتها شبه واجبة وذلك لأجل إثبات الذات بين أفراد القبيلة.

وهناك نوع آخر من التطوع القائم على تقاسم كل ماهو متاح وخاصة الألبان حيث تتطوع العائلات الغنية داخل “لفريك”(مجموعة سكانية صغيرة ) بتوفير الحليب، من خلال منح ناقة حلوب وشاة ماعز لاستغلال ألبانها طيلة فترة حلبها وتسمى “لمنيحة “، وهي دليل قاطع على التعاون في المجتمع الصحراوي، كما يمكن منح ظهر جمل لاستغلاله في الرحيل وجلب الماء، وذلك في نفس السياق السابق.
أما اليوم، فيبنى العمل التطوعي على حرية الإرادة والإختيار من أجل التطوع أو عدم التطوع، أي أن أهداف أي عمل تطوعي يجب الاتفاق والتعاقد حوله مسبقا، ومشروطة بأن لا تقوم على غاية أو منفعة شخصية.
وهذا ماذهب إليه، فوزي بوخريص أستاذ علم الإجتماع بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، حين عرف العمل التطوعي، ” بكونه فعل حر وطوعي، يجسد قيم التضحية والتضامن والعطاء والغيرية؛ لأنه موجه إلى الغير، وهو في الآن نفسه يسمح للإنسان المتطوع بتحقيق ذاته، من خلال سعيه وراء غايات يؤمن بها ويتوافق حولها مع غيره”.

ويلاحظ أثناء تدبير جائحة كورونا، كثرة المبادرات التطوعية في مختلف مدن وأقاليم الصحراء، والتي شملت جوانب التحسيس والتوعية بمخاطر الجائحة وبالممارسات الكفيلة بالمساعدة على مواجهتها، وموازاة مع ذلك برز نوع آخر من العمل التطوعي، يتمثل في جمع التبرعات المالية للمساهمة في بناء المساجد.
ويتناوب على مدارات الطرق الرئيسية بمدينة العيون، أشخاص كثر يحملون أكياس قماش لجمع التبرعات المالية، ويرددون عبارة ” بيت الله يا المحسنين “، ويتطوع هؤلاء لساعات كل يوم انطلاقا من إيمانهم الراسخ، أن ” من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة، أو أصغر، بنى الله له بيتا في الجنة “.

لمين بوروس، عضو في جمعية الوفاق الخيرية، يمضي أوقاتا طويلة يتجول رفقة متطوعين آخرين بالطرق الرئيسية لمدينة العيون، بهدف جمع التبرعات للمساهمة في بناء مسجد الوفاق G، وهو نموذج حي لمن يختارون بحب وتفاني هذا النوع من العمل التطوعي بالصحراء.
يرى هذا المتطوع، أن تماطل الجهات المختصة والمسؤولة عن بناء المساجد بالأحياء الشرقية للمدينة، التي تتميز بالكثافة السكانية، دفع شباب وساكنة الحي إلى تأسيس الجمعية من أجل القيام بهذا العمل الخيري، والإشتغال في سياق جمعوي مؤطر، بعيدا عن العمل الفردي.

ويؤكد عضو جمعية الوفاق الخيرية، إن هذا النوع من التطوع تواجهه إكراهات وصعوبات، لكونه شاقا وغير بسيط، ويتطلب مجهودا عضليا وتضحيات كبيرة، فضلا عن نظرة بعض فئات المجتمع لمن يختارون العمل في هذا النوع من الأعمال التطوعية، فهناك من يصنف ما نقوم به في خانة المتاجرة بالدين والإسترزاق.
وأضاف لمين بوروس، أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، كجهة وصية على هذا القطاع، ما تقوم به لا يرقى للمطلوب، وتظل غائبة عن المساهمة المادية في بناء غالبية المساجد، وتؤكد نسبة الأرقام والإحصائيات المتعلقة ببناء المساجد في المغرب ذلك.

ومن جانبه، أكد محمد اليوسفي، الصحفي والباحث في علم الاجتماع، أن موضوع جمع التبرعات في الشارع العام لبناء المساجد يحمل جانبا من الغموض، حيث يحوله البعض إلى حرفة لجني المال، والأجدر أن يتم جمع هذه التبرعات، لفائدة الخدمات الصحية وأشياء أخرى ذات أهمية والحاجة لها قصوى.
وأشار اليوسفي إلى أن، ” هناك عدد كبير من جمعيات المجتمع المدني بالجهة، تتوزع على مختلف مجالات الإشتغال سواء على مستوى البيئي، الثقافي والتربوي، وكذا الأشخاص في وضعية إعاقة، ولا وجود في العمل الميداني سوى لبعض الجمعيات التي تغطي غياب فيالق الجمعيات الأخرى الموجودة أصلا على الورق.

وفي سياق متصل، قال الباحث في علم الاجتماع، أن ” المساجد مرفق حيوي بالنسبة للمسلمين، وأصبح ضرورة ملحة لممارسة الطقوس والشعائر الدينية الإسلامية، وعلى الرغم من وجود من يستغلون هذا النوع من العمل التطوعي في غير أهدافه وغاياته، إلا أن الجمعيات القائمة على هذا النوع من العمل تستحق التنويه والإشادة، بما تبذله من مجهودات تساهم في نشر وترسيخ ثقافة العمل التطوعي بمدن الصحراء.
ويتفوق المحسنون على وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في نسبة بناء المساجد بالمغرب، إذ بلغت نسبة المساجد التي ساهم المحسنون في تشييدها ما مجموعه 86%، في مقابل نسبة مساهمة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بلغت 14%.
كما تجدر الإشارة إلى أن، قانون المالية لسنة 2020 خصص لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، حوالي 3 ملايير و693 مليون و843 ألف درهم، تضمنت المبالغ المخصصة لنفقات الموظفين والأعوان بقيمة 833 مليون و636 ألف درهم والمعدات والنفقات المختلفة بقيمة 2 مليار و860 مليون و207 ألف درهم.