“عيشتو” وطيور الجنة بشارع راس الخيمة

نجاة حمص5 يناير 2025آخر تحديث :
“عيشتو” وطيور الجنة بشارع راس الخيمة
نجاة حمص

تعرفت على صديقتنا “عيشتو” وحلاقة رأسها الغريبة، في مرحلة متقدمة من مراحل الطفولة الغابرة، عندما كنت لا أزال حائرة وعالقة بين “الخميرة” و”التحميرة”، و تائهة بين “القزبور” و “المعدنوس”, وعما تعنيه بالضبط “دادة العالية” ب”الوراثة”، وسط كومة الأشياء الكثيرة التي تؤثث مجالي البصري، وكل منها يحتمل أن يكون “الوراثة” المنشودة.

رمى بها القدر في طريقي في توقيت غير مناسب لدراسة وتحليل طير فريد من طيور الجنة، لم اعطها ما تستحقه من اهتمام وتركيز، كنت طفلة من أطفال الجيل الذهبي البائس، وكانت أمهاتنا ، سامحهن الله، يحرصن على دمجنا قسرا في أعمال البيت الشاقة المؤبدة، و يرمين إلينا بصغار بسمت بشر وافعال جن، تحلو لهم الحياة والهرولة دون سراويل، يلعقون الأحذية باستمتاع، يلتهمون الرمل،.. أغلب الظن أنهم عجنوا بمياه الشياطين و القردة المتسلقة.

كانت ” الگايلة” هي أنسب وقت لنا لاسترجاع هويتنا كأطفال، نتطط ونجري كمن حرم الحرية لعقود، كانت فرصة لممارسة طفولتنا وتفريغ طاقتنا في اللعب البهيمي العبثي، والعجائز كن موقنات لدرجة الإيمان أن وحدهم الجن ” ما يگيلو”، و “الضيافين” يحلو لهم التوافد عقب صلاة العصر، ونحن نحاول فقط استغلال فترة نوم الجبابرة الكبار للتملص والإنعتاق.

وذات “گايلة” قائظة، وبينما كنا نثأر لطفولتنا، ونذرع الحي باستمتاع طفولي أمام أنظار كبار السن، الذين يفرش لهم أمام الأبواب قبل بداية رحلة غروب الشمس بقليل، وفيما كنا نلهو كالقردة أمام نظراتهم المستغربة وهمهماتهم التي تستنكر هذا اللعب الذي لم يلعبوه لا هم ولا آباؤهم الأولين،.. يزايد بعضنا على بعض ونتنافس بشراسة، فيعلو مستوى شد الحبل من الركبة إلى شبر فوق الرأس، وكلما علا الخيط ازددنا شبها بالشمبانزي، إلى أن نتحول إلى “باسم الله الرحمن الرحيم”، على قول “الشيب”، عندما يصبح بمقدورنا القفز من على حبل مثبت أعلى يافوخ الرأس بشبر.

كنا منشغلين بالتنافس المحموم، لم نكن آبهين بمقدم جيراننا الجدد، الذين ينقلون أمتعتهم وأولادهم من “لاندروفر” عتيقة الى داخل منزلهم على الناصية، كنا نلعب بخشوع عندما خرجت “عيشتو” وإخوتها ..فجأة!.

تركنا ما بأيدينا مشدوهين، والتفتنا دفعة واحدة باتجاه واحد إلى البيت القابع في الناصية، فعندما انتهى الآباء من نقل الأمتعة وانهمكوا بالداخل..خرج إلينا الأطفال،”أحباب الله”، بلا سابق إنذار.

عدد من الصغار المتقاربين عمريا أطلق سراحهم، ليقطعوا المسافة بيننا وبين بيتهم جيئة وذهابا، راكضين كالسهام، فرحين، وكأنما يتعرفون على العالم ويتلمسونه لأول مرة، ربما بدت لهم مسافة الرحلة ما بين بيتهم القديم وحينا كدهر، لذلك كانوا مبتهجين بالوصول لدرجة أثارت الرعب.

طبعا، تركنا ما بأيدينا و وقفنا نراقب ما يحدث بتوجس، بينما سمى “الشيب” الله مستنكرين “سلام قولا من رب رحيم” ، فالأغرب من حلاقة رؤوسهم هو طريقة لعبهم وما تقوم به شقيقتهم التي سنعرف لاحقا ان اسمها “عايشة” و “يماروها” ب “عيشتو”.

كانوا يركضون حسبما اتفق، بخطوط سير متعرجة و عشوائية، ولا يرون بأسا في الاصطدام بنا اذا أعقنا طريقهم،.. يضربون بعضهم بفظاظة وغلظة ثم ينفجرون ضاحكين، ويجمعوننا مع المضروب اذا اختبأ وراءنا أو تصادف وكان بجوارنا.

آنذاك، اكتشف “الشيب” ومن لم تكن طريقة لعبنا تعجبهم كم كنا فتيات ناعمات، اكتشفوا ذلك والصغار يتقاذفون بالحجارة، من باب اللهو والتسلية، و يتقافزون فوق رؤوسهم ويختبئون وراء ظهورهم بغلاسة منقطعة النظير، وبذلك كانت تصلهم نفحات الطفولة المتوحشة.

تعالت الهمهمات والاستنكارات “يگلع بوك”، زجر الصغار أن “طيروا ابعيد”، فكانوا يطيرون ثم يعودون.

الصغيرة “عيشتو” ضاقت ذرعا باللعب “الأغجر”، فانسحبت والتحقت بنا، وياليتها لم تفعل، فبالتحاقها جرت الويل علينا، فوجدنا أنفسنا داخل حلبة المصارعة رغم أنوفنا.

“عيشتو”، كانت تواجه عدوان أشقائها الراكضين بزغاريد متقطعة.. خائفة.. بينما تبحث عن ملاذ خلفنا أو خلف أحد الجالسين على العتبات..وأمام زغاريدها لا يملك أشقاؤها الا التوقف عن ملاحقتها.

لم تكن المرة الأولى التي نشهد فيها زغاريد الفجأة والخوف،.. والدة صديقتي تزغرد كلما زارت مطبخها حشرة أو زاد زوجها من سرعة السيارة، و “دادة العالية” هي الأخرى تطلق زغاريد انسيابية بدون مناسبة وجيهة، لكنها المرة الأولى التي شاهدنا فيها طفلة تتفادى اللعب الهمجي والسحل والضرب.. بالزغاريد.

وضعنا الحبل أرضا باستسلام وخضوع عندما تزايد العدوان الطفولي علينا، وجلسنا على “لاسيرة” نراقب هذا النمط الغريب من اللعب، وكلما اقترب منا أحدهم زغرت أنا رغم أنفي بهلع أن: “لولولولي….” فيبتعد الصغير، وأحيانا أخرى تتكفل صديقتي بالمهمة ثم تتضرع لهم بالأمراض المزمنة والمنقولة جنسيا.

“عيشتو” الطيبة، كانت أكثر من زغردت بمدينة العيون، فالزغاريد تنفلت منها تباعا وهي تجري باتجاه منزلها إذا حدث وانشغلت باللعب ألى ان امتلأت مثانتها، وتزغرد فرقا من الحشرات الطائرة والزاحفة، وتزغرد وهي هاربة في لعبة “حابة” أو عند اكتشاف مكانها في لعبة الغميضة و”قاش قاش”.

لا أعرف ردة فعلها وهي عروس تزف إلى زوجها، عندما أطلقت الزغاريد عليها و حولها ومن كل حدب وصوب، ولا أعرف كيف واجهت المخاض وحصة التعذيب بقسم الولادة، مجرد التخيل يجعلني انخرط في موجة ضحك،..كم كانت فتاة شفافة، علم الكل بلحظات خوفها، “الله يذكرها بالخير” هي وكل سكان رأس الخيمة الطيبين.

تحياتي.

نجاة حمص

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


التعليقات تعليق واحد
اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
  • نجم الساحل
    نجم الساحل 5 يناير 2025 - 6:00

    هاذولخيام الىخطاو //من ذاك الحد الفيهم
    عالم مولانا لاخطاو // علي ما نسميهم

error: Content is protected !!