جدل في دعاء

ابراهيم كان19 ديسمبر 2024آخر تحديث :
جدل في دعاء
ابراهيم كان

بقلم: إبراهيم طاهر محمد عثمان كان.

بعد أن انهارت دولة الأحلاف خرج الأمراء في الناس يحشدونهم كل حول نفسه ويؤلب صدورهم حول خصومه. فبينا واحد منهم خارج بموكبه نحو حاضرة من الحواضر، إذ بأعرابي يشخص له في الطريق ثم مايلبث أن يهرول نحوه حانيا ظهره في صورة تنم عن الخضوع والرهبة، فأومأ الأمير إلى حرسه أن كفوا عنه، حتى إذا دنى الأعرابي من الأمير _ وهو على صهوة جواده تمسك بتلابيب الأمير ورفع صوته في حشرجة قائلا: ” أيها الأمير، رزقك الله دعوة نوح .. وقِتلة يحيى..و…” قاطعته الهمهمات في الموكب وقد ارتفعت، والحواجبُ بعضها مندهش وبعضها مقطب وبينهما من لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. حتى قطع اللغط صوت الأمير باسماً يقول:” أكرموا هذا فإنه دعى لنا بطول العمر ثم الشهادة في سبيل دعوتنا.”
عاجله وزيره الذي عن يمينه قائلا: ” أصلح الله الأمير. لا أرى هذا إلا دعا عليك!”
الأمير: ” ويحك! وكيف يكون ذلك وما سمعتَ منه إلا ما سمعنا؟ “
الوزير: ” أيها الأمير أصلحك الله. إن نوحا دعا قومه نيفاً وتسعمائة عام وما آمن معه إلا قليل، وأنى لك يا أمير بتسعمائة ونيف؟ وتبعا لذلك فأنى لك بالقليل الذي يؤمن لك؟ أما يحيى فما دعا لك بمَقام شهادته، وإنما دعا عليك بهيئة قِتلته، وقد حُزَّت رأسه الشريفة.”

ولك أن تتخيل تالي الأحداث حسب مخيلتك وهواك وتصوراتك..

لا شك أن مواقع الحواجب من وجوه أصحاب الموكب كانت تنم عن جدل حول مقالة الأعربي، ولا شك أيضا أن هذا الجدل كان شطره مضمراً وشطره ظاهرا كما في حوار الوزير والأمير. وعلى الأقل في وجهتي الرأي الظاهرتين، تنطلق كل منهما من تصور وقراءة للمنطوق بفهم معين. فحتى إن كان كلام الأعرابي إنشائيا فهو قابل للتأويل والقراءة على أوجه تختلف باختلاف من يتلقونه. كما أن الخطاب الخبري الذي يحمل معلومة جافة كذلك، هو موضوع للتصديق أو التكذيب، إما عن معايير علمية وموضوعية، وإما عن تأدلج وانحياز مُدركٍ أو غير مُدرك، أو عن شيئ من هذا وذاك.

فإن أعملت النظر أيها القارئ في موقف الأمير من قول الأعرابي، باعتباره مدحا ودعاء، فلعله تأثر بهيئة هذا الأعرابي الذي جاء مهرول المشية محدودب الظهر محشرج الصوت.. فالتمس له عذر الاضطراب وجهله بما يخاطب به الأمراء..ولعل الأمير فطن لما في هذا الكلام من تعريض ودعاء بالفشل والموت، لكنه آثر أن يبدي الحلم والرحمة وهو في بداية حشد الناس إليه. فهو قابل إضمار نية الأعرابي بغطاء العاطفة. قابله بدغدغة مشاعر من سيصل إليه خبر حِلم الأمير وعدم أخذه الناس بالمظان. وهكذا، إما أن يكون تأويله صائبا أو يكون موقفه عن تفكر وتخطيط وكيد. وقد يكون لا هذا ولا ذاك، فلعل الأمير ممن يطرب للكلام دون إعمال كثير نظر.

أما عن الوزير وقوله، فإما هو عالم بحال أهل البلد التي منها الأعرابي من كراهية لأميره، أو إنه حانق عليهم لأمر في نفسه، أو إنه يقدم الحذر والشك حتى يبدو غير ذلك. ولعل فهمه لكلام الأعرابي كان على وجه المنطق والعقل. فلا يكون القتل مذكورا في دعاء بهذه اللفظة إلا وكان دعاء على الشخص لا له، وإنما درج الناس في مثل هذا المقام على ذكر الشهادة باعتبارها مقاما عليا يأمله كل مؤمن. ولو أن بلوغها قد يكون بالقتل. ولا حظ أن الوزير أمعن في استخلاص النتائج من مقدمات افترض تضمنها في قول الأعرابي إذ دعا للأمير بأن يرزقه الله دعوة نوح، اذ افترض الوزير أن الدعاء جاء من جهة طول الأمد وقلة الحصاد، إذن فالنتيجة هي الفشل بعد طول عناء (وحاشى أن ينسب الفشل لنبي مكرم من أولي العزم). وهكذا إن شئت، وجدت صياغة لمقدمات ونتائج في الشطر الثاني من دعاء الأعرابي.
فإن كان الأمير عالج الكلام من جهة العاطفة والحكمة. فإن الوزير قد عالج نفس الكلام من جهة المنطق والعقل والحزم. وبذلك خرجا بخلاصتين أحدهما تفضي إلى الإكرام وأخرى تفضي إلى حز الرأس.

إن هذه القصة محض خيال، لكن لا يمنع أن يكون لها مصاديق في تراثنا الطويل أو نماذج مشابهة في واقعنا المعاش. لكن العبرة التي أريد، أن موقفا ما، قد يقسمنا بين مؤيد ومعارض ومتوقف وغير مبالٍ، حسب تصوراتنا وتجاربنا في الحياة. ولعله من الصواب والحكمة قبل الشروع في أي مجادلة ومقارعة للحجة بالحجة، وضحد للشبهة بالشبهة، وتصيد للمغالطات .. أن نأخذ مسافة لفهم أولاً منطلقاتنا وتصوراتنا التي تصدر عنها مواقفنا، ثم محاولة فهم منطلقات وتصورات الرأي المخالف، والمؤثرات الاجتماعية والنفسية والتجارب الحياتية التي ساهمت في تشكيل هذا الرأي.
ولعل هذه المسافة الفكرية في الغالب تأخذ وقتا غير وجيز، تكون معه العقول أكثر اتزانا، والنفوس أكثر هدوءا والمواقف أقل حدة.

وانظر إلي موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه إذ جيئ به بعد أن اقترف جرما يرقى إلى خيانة الدولة في وقت حساس، فقال له نبي الحكمة والرحمة: “ما حملك يا حاطب على ما صنعت؟” واذكر أن هذا القول وهذه الأناة كانت في وقت التجهيز لجيش الفتح. فكان هذا السؤال وهذه المسافة فرصة لحاطب أن ينفي عن نفسه الكفر والتبديل، وأن يفصح عن تصوره في رجاء السلامة لماله و أهله. والتفصيل جميل في قصة الحديث، إن شئت يا قارئ عدت له لمزيد فائدة.

إن أمتنا في هذا الظرف المفصلي بالذات، وهي في شقاق حول مواضيع جمة من قبيل جدية محور المقاومة وواقعية محور المهادنة وغيرها من المواقف الحدية، لفي أمس الحاجة إلى نقاش عال يقوم على أساس: ماحملك على هذا؟ بدل أن يدلي كلُ بما يعتلج في صدره حيال مخالفه قبل أن يعطي لنفسه فرصة النظر والتمحيص وفهم التصورات . لا أقول أن ليس في الأمة عقلاء ينحون هذا النحو، ولكن أغلبهم صوت صارخ في البرية لا يراد له أن يُسمع، أو أنهم في أبراج العاج يفكرون دون أثر حقيقي في سلوك الناس.

عودة إلى الأعرابي، فإني لا أظنه إلا داهية لمَّا صادف أميرا لا يعرف إلى أي شيئ يدعو. صاغ دعاء حمّال أوجه يجد عند الأمير قبولا. وإن نجى وعاب عليه الناس تزلفه وجد مخرجا بأن يقول إنه دعا على الأمير لا له. فانظر أنت أي الأقوال أقرب إليك!

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


error: Content is protected !!